تواصل معنا
مقالات

حاتم علي في ذاكرة العائلة العربية

عبد الهادي الركب   |   2021/12/18

ربما يندر أن نجِد صالوناً عربياً لم تصدح به حوارات عائلة مسلسل الفصول الأربعة، أو نجِد من لم يذرف الدموع بسخاء أثناء مشاهدة أبو صالح في التغريبة الفلسطينية، فهذا التعلّق بأعمال رسخت في الذاكرة لا يأتي من فراغ، بل يعكس تجربة مخرج قدّم عمله من القلب إلى القلب. إنها حتماً تجربة المخرج حاتم علي.

رحل فارس الدراما السورية حاتم علي هذا العام عن الحياة، تاركاً في الأرشيف أعمالاً درامية كان لها الأثر الأكبر في تكوين الذاكرة لدى المشاهد العربي لا السوري فقط، لأنه استطاع العبور بهذه الدراما إلى خارج حدود سوريا ونشرها عربياً، وهذا ما يصعُب على الكثيرين اليوم القيام به. تحتاج هذه الخطوة إلى فهم حقيقي للواقع، ورصد لما يعانيه الإنسان ونقله عبر الكاميرا، ليتم في النهاية توحيد هموم الشارع العربي في حكاية يغلب عليها السحر.

ولعل من قرأ أرشيف الكبير علي، قد وجد أن تجربته تستحق التأمل فيها لما تتمتّع به من تنوّع في الطرح، ومهارة في التنفيذ كانت قد بدأت منذ تخرجه من قسم التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق في عام 1986، ووقوفه لأول مرة أمام الكاميرا مع المخرج هيثم حقي في مسلسل "دائرة النار". كانت هذه بدايته التي قادته لتقديم نفسه كمُمثّل بأكثر من 28 عملاً تلفزيونياً مهماً. وفي منتصف التسعينيات، انتقل علي إلى عالم الإخراج الذي لمع به كنجمة، ليضع توقيعه تحت أكثر من 25 عملاً متنوعاً في الشكل والمضمون. 

وكانت أعماله التاريخية هي أبرز ما تميّز به، حيث استطاع نقلها من صفحات التاريخ الجافة إلى الشاشة الصغيرة بإتقان مبهر بفضل امتلاكه لأدوات إخراجية متقنة، فزوّد المشاهد العربي بثقافة عالية في التاريخ، وخاصة التاريخ المتعلق بالحقبة الأندلسية عبر تقديم أعمال خالدة في المكتبة العربية، مثل "صلاح الدين الأيوبي" و"عمر بن الخطاب" و"ملوك الطوائف" و"صراع العروش" و"ربيع قرطبة"، فباتت هذه الأعمال مرجعاً بصرياً يكاد يوازي المراجع التاريخية في الأهمية. 

ولا بد لنا أن نذكر رحلته في عالم الإخراج في مصر، حيث صوّر رحلة آخر ملوك مصر في مسلسل "الملك فاروق"، ثم راح يُغرّد في عمل "أهو ده إلي صار" لينسِج حكاية مُرصّعة بالنجاح داخل أسوار قصر فخم في مدينة الإسكندرية. 

وانتقل علي بعدها إلى الدراما الاجتماعية التي كان لها الوقع الكبير في قلوب المُحبّين، حيث تمكّن من تصوير العائلة العربية وهمومها خير تصوير، فقدم من خلالها كل المشاكل والنقاشات والقضايا التي يمكن لها أن تدور على كل مائدة، وكانت هذه نقطة النجاح المفصلية في مسيرته. بكت القلوب على غياب علي، لأنه جعلنا نستذكر الجو الحميمي الذي فقده الإنسان العربي في زمن الغربة، فتكاد القلوب تتوقف عند أول مشهد يظهر فيه فنجان قهوة الأم المعقود على خاصرته عقد الياسمين، لتتفجّر في أرواحنا ندبات الماضي التي تزامنت مع أعماله.

من يُتابع أعمال علي يُدرك جيداً أنه تمسّك بمشروعه وحافظ على ثباته على الرغم من اختلاف ظروف الإنتاج على مدار السنين والتعقيدات التي طرأت على صناعة الدراما والتحولات الجذرية التي شهدتها على مدار 25 عاماً. 

لهذه الأسباب، لم يكُن علي مجرد مخرج مسلسل يُذكر اسمه في نهاية الشارة، بل أضحى بوابة لمدرسة كل من دخلها خرج منها نجماً، فشكلّت الأدوار التي أداها الشباب تحت إشرافه فرصة للظهور وإن اقتصر الدور على مشاهد معدودة فقط. تهادن مسلسلات علي الجميع، وتحفظ حقوق كافة الممثلين، وهذا هو الأمر المفقود اليوم في الأعمال الأخرى، إذ يجري التركيز على البطل وتُهمل بقية الخطوط الثانوية، فتُصبح فرصة الممثل الجديد أضعف وتعتمد على عناصر أخرى كالحظ أو الدور الفاقع بالشكل أو المضمون. أما علي، فقد قدّم النجوم الشباب على سجيتهم، بكامل طاقاتهم وبإيمانهم بثقة العرّاب.

رحل علي مجبراً الجميع على البكاء على رحيله، مثلما بكت الزهراء أخاها كليب في ملحمة "الزير السالم" الأشهر عربياً، عندما رفضت دفنه حتى تبكيه نساء العرب قاطبة، وها نحن اليوم نعيش تناصاً تاريخيا مع رحيله، لنوّدع ربما بفقدانه الحلم بإحياء الدراما العربية من جديد.