هل تعرفُ عمّان الرقص؟ إيقاع مشي الناس في الشارع يعطي انطباعاً أولياً عن الحياة التي يعيشونها؛ ملامح الوجوه حادة، أيادٍ خشنة، ولون بعض زوايا المدينة الرمادي الممزوج بالأصفر، تبزغ منهُ ألوان ألواح زجاج النوافذ تعكس السماء الزرقاء، وقباب خضراء متناثرةً. لا يراها أهلها هكذا بالضرورة، لكن يبقى هذا سؤال الفنان المتعب والذي ينبع من فضولٍ طفولي وشغف بإنارة العتمة – مدفوعٌ بصور شخصية وتجربة فريدة يحيطها الإستثناء في صنع السياق، ليكون المنتج النهائي خارجاً عن المألوف.
تبدو المدينة مقسمة؛ كُلٌّ لهـ/ـا لونهـ/ـا أو ألوانهـ/ـا فيها، فمن يرى فيها قلعتها وجسورها وحدائقها، ومن يرى فيها أزقتها وزواريبها، ويبدو أيضاً أن كلاهما -الرمادي الممزوج بالأصفر وباق الألوان- يلتقيان في تخيّل يريد للمدينة أن تحمل هذه الأوجه كُلّها. وهذا حال شيرين تلهوني، التي وُجدت وأوجدت نفسها في هذا السياق المكاني، بين ما يراد لعمان المدينة أن تكون، وبين عمّان الواقع.
وجدنا منذ لحظة لقائنا الأولى أرضية مشتركة -وضرورية- قارنّا عليها الواقع الثقافي بين فلسطين والأردن، فكان سؤال "الفاعلية الثقافية" ناجمٌ عن وجود مجتمع فني وثقافي هناك، لا تجده شيرين هُنا في الأردن.
شيرين: مشروع "الصبية النموذج" عند عائلتها الأردنية. درست في مدرسة البكالوريا، وانتقلت بعدها لدراسة الهندسة المعمارية في بريطانيا ملبية توقعات أهلها منها في السير على الدرب الجاهز المخطط مسبقاً لمستقبلها، رغم ما كان يحوم ويدور في رأسها.
وفي لندن طرحت على نفسها الأسئلة الذاتية، تلك التي تتعلق بالفِكر والشغف، موضبةً إياها كُلها على حواف المخطط الهندسي. كانت رسوماتها وتصوراتها الهندسية تقوم على الحركة الدائمة الأمر الذي كان جلياً لأساتذتها في الجامعة عندما صممت شيرين في الواحد والعشرين من عمرها مبنىً فقاعياً يضم كافة العناصر الهندسية الأساسية، بالإضافة لكونه مبنى متحركاً غير ثابتاً. حينها، نصحها أستاذها بالالتحاق بحصص الرقص، قائلاً لها "ثمة شيء آخر تبحثين عنه والهندسة غير كافية، وربما عليك أن تجربي الرقص". لم تكن مندفعة وقتها لتجربةٍ كهذه.
ومضت شيرين في حياتها تؤجل اشتباكاتها مع الواقع والمجتمع ومع ما يدور حولها وفي رأسها، فتقول شيرين "رغم عملي في لندن داخل أفضل الشركات ضمن بيئة عملٍ رائعة، كنت أرى جميع مَن حولي شغوفين جداً في عملهم، إلا أنني لم أعرف لماذا كان عليّا النهوض الساعة السادسة صباحاً والذهاب إلى العمل. افتقدت الشغف".
استلهمت شيرين طاقتها من الربيع العربي بين عامي ٢٠١٠ و٢٠١١، واندفعت بجرأة وصراحة؛ فأعلنت لأهلها عن علاقتها بزوجها الحالي ماثيو/أبو بلال وانغماسها في تجربتها في رياضة المواي تاي والجوجيتسو.
تُفتح الأبواب في أكثر الأماكن كسراً للرتابة، وهذا جليٌّ في مدخل شيرين إلى الرقص المعاصر. تبدأ القصة في عرس إحدى بنات خالتها الشركس هنا في عمان حيث صورت فقرة مغادرة العروس بيت أهلها، ثم منتجت الفيلم بشكل معكوس «Backwards». بالتوازي مع هذا المشروع الشخصي آنذاك، اصطدمت بإعلان عن تعلم تخصص رقص دون حاجة الخبرة في «Trinity Laban Conservatoire of Music and Dance». قدمت شيرين الفيلم هذا برفقة رسالة تتحدث فيها عن نفسها. المثير في الأمر أن السيدة التي قبلت دخول شيرين إلى أحد أهم المعاهد الإبداعية في أوروبا قالت لها إنها شاهدت الفيلم مرتين، "لولا هذه السيدة لما دخلت المدرسة" تقول شيرين.
هناك، وضعت شيرين أحرفها الأولى في أبجدية الجسد في سن الثلاثين، حيث خرجت من الزوايا القائمة إلى الانسيابية في الطرح، ومن إرتفاعات السقف إلى ألوان أفق، ومن تخطيط المدن إلى تلوين الروح، خارجة من "عباءة القبيلة" نحو ظل شمس، لمواجهة الثقافة السائدة والتقاليد، محطمةً بقرارها كل التوقعات المفروضة عليها، عملياً ومهنياً وأسرياً ومجتمعياً من جانب، ومن جانب آخر مندفعةً نحو ذاتها.
تصف شيرين تلك الفترة دون أن تفهم كيف تدحرجت بها الحياة دفعةً واحدة، بين علاقتها مع جسدها واكتشافها له من خلال الرياضة والحركة المستمرة. عن لحظة تعرضها للضرب في التمارين، تقول شيرين "للمرة الأولى أشعر بالحرية".
تلعب شريط حياتها إلى موقعها اليوم لنحلله معاً. مسارها من تخطيط العمران إلى رسم حركة الجسد، وكأن بذرة ما كانت دائماً موجودة، لابثة في غير تربتها، وكل ما كان يحدث حول شيرين من رياضةٍ وملاحظاتٍ ومناسباتٍ اجتماعية وعروضٍ فنية وأفلام رقص كان يؤدي بها إلى تربتها الأصلية، إلى الرقص.
تصف شيرين عملها ورحلتها في عالم الرقص كمحاولة لاكتشاف المكان، عمّان المدينة وعمّان الناس وتلك العلاقة غير المفهومة بينهما، وكل ما في تلك العلاقة الجدلية من سؤال وفكر وثقافة وتاريخ وسياسة. ترى شيرين تاريخ المدينة مقسوماً إلى جزئين، أولهما عتيقٌ من قبل ٣٠٠٠ عاماً، والآخر يبدأ منذ ١٠٠ عام فقط، أما ما بينهما، ففجوة وشرخ على حد تعبيرها. وعلى الرغم من كون المدينة، كما تراها، لا تمثلها ثقافياً أو جمالياً وتتطلب وقتاً طويلاً لفهما والحركة فيها، إلّا أنها لا تقوى على مغادرتها والوجود في غيرها. وكأن في عودة شيرين إليها وبدء مشروعها الفني الخاص فيها محاولةً لتفكيك علاقتها الشخصية مع المدينة وناسها، وعلاقة ناسها بالمدينة كذلك.
لشيرين، لا يصنع الناس المكان، ولا يصنع المكان الناس، كلاهما مترابطان معاً، وكلاهما منفرداً بنفسه. وذلك هو تفسيرها لعلاقتها مع الهندسة والرقص والمكان في آن واحد بعلاقة الجسد مع البيئة. وتضيف شيرين أن ثمة مستويين من الثقافة يفصلان شكل المدينة وأهلها "ثقافة «عليا» وثقافة شعبية"، فيميل أعظم الناس إلى ثقافة البوب والثقافة السائدة عموماً، في حين أن الكتابة والرقص والموسيقى والشعر، على اعتبار أنّهم حكر على نخبة ما، ليس لديهم جمهور، وهذه الحالة تشمل الرقص المعاصر وشكل إنتاجه.
في غوصنا في مفهوم الجسد والمحيط، تحاول شيرين تفكيك محددات المكان وتعريفاته. السياسات والأبنية والقانون والمجتمع كُلّها مكونات تلعب معها شيرين وتدرسها عن كثب عبر حركة الجسد. لا تسعى إلى تمثيل المحيط من ناحية هوياتية وطنية، بل لتمثيل المكان؛ فتصميم الرقص والحركة نتاجٌ طبيعي عن التفاعل والاحتكاك مع كل تلك المعطيات. في الرقص المعاصر ثمة مساحة هائلة تسمح بالاشتباك وبناء العلاقات في آن واحد. تكتشف فيها الجسد، فيصير فهم المكان أسهل، والعكس صحيح أيضاً. لا يجدر أن يخضع هذا التصميم والحركة إلى التلاعب بعاطفة الناس، بل للاندفاع نحو التجربة الشخصية فحسب. يحصل هذا في مساحة ليست سهلة على المصممين والراقصين جراء الرقابة على القضايا والرسائل على صعيدين المؤسسة الرسمية والتمويل. لذلك، سعت شيرين إلى شق مساحتها الشخصية في غمار ذلك كله بمشروعها "عمان المعاصرة"، فتقول شيرين: "أنا صنعت مساحتي بين كل هذه الصراعات".
الصراعات البنيوية-المكانية تلقي بثقلها على جوانب أخرى في عقل الفنان. تحوله من مُنتجٍ للحركة مِن وعلى جسده، إلى مُراقب ومستلهم من حركة أجساد الناس في الحياة اليومية؛ في السوق والنشاط الاقتصادي و السياسي. تُشير شيرين هُنا إلى مفهوم الارتجال والذي تستند عليه في بناء أعمالها الفنية. تُصرّح أنّ الثقافة المحيطة بعمومها وشموليتها تتيح الارتجال في الحياة اليومية. مثلاً، محطات القهوة المنتشرة في الشوارع هي ارتجالٌ من أصحابها لإيجاد حلول اقتصادية موازية نسمعُ الارتجال كذلك في الموسيقى والطرب والتجلي وارتجالات العود والخروج عن اللحن والنوطة والنص الغنائي المدوّن مسبقاً. لكن لا يزال ثمة أشياء غير مكتشفة، تقول شيرين، ولهذا تضع الارتجال كمحطة انطلاق للاكتشافات القادمة. تقول: "تحويل الارتجال في الحياة كفهم طبيعي نحو الفن هو التحول الحقيقي". دون أن يكون هذا الارتجال فوضى بالضرورة، أو دون إطار وجذور تضمه، بمعنى آخر: "مخ مهندسة وجسد راقصة".
رأيت هذا مباشرةً في إحدى جلسات التدريب لشيرين في الإستديو الخاص بها في عمان، حيث وضعت موسيقى للراقصات الثلاث وأعطت التعليمات العامة لطبيعة الحركة تحت مظلة الارتجال والاستحداث. أسندت رأسها على الحائط ومضت هي أيضاً في ارتجالها الشخصي، كأم وراقصة ومصممة رقص ومدربة أيضاً، فكيف يمكن لهذه العناصر أن تجد تناسقها في الإيقاع والشكل والأداء، في واقع أشبه ما يكون بالمغاير، وهي على حساسية واعية له، على صعيد أولادها تحديداً.
رغم قناعات شيرين الراقصة ومصممة الرقص المعاصر، إلا أن موقعها كأم يضعها في موقف حريصٍ على خلق علاقة صحية بين أطفالها الذكور والرقص، دون أن يورطهم ذلك مع مواجهة مباشرة مع الصور النمطية في المجتمع ويخلق لهم أزمة في ذات الوقت. تقول شيرين إنها لا تريد فرض الرقص المعاصر، أو الباليه مثالاً، على أبنائها لما قد يشعرون من تنمر من قبل الأقران جراء الصور النمطية التي ترى أن الرقص مناسب للفتيات والنساء فقط.
لا تعرِفُ شيرين شكل المستقبل وإن كان هناك مساحة لتكوينه وتشكيله حالياً، وتجد نفسها ما بين شغفها الشخصي كفنانة وبين مسؤوليتها تجاه ذاتها وعائلتها كصاحبة مشروع فني. تحاول العيش منه من خلال تقديم حصص التدريب للأطفال والبالغين ضمن سعيها الحثيث لإنتاج قطعة فنية خارجة عن إطار الدعم والتمويل والسلطة، أو بعبارة شيرين "بدي آخذ راحتي".
لا أعرف متى يمكن للإنسان أن "يأخذ راحته" تماماً في هذا العالم. وإن كان ثمة مساحة تبقت لنا كأفراد يحومون في فلك مُهيمن وقامع لنعيش فيها بحرية مطلقة، وماذا يعني مفهوم الحرية الآن أساساً؟ ذهبت بنفسي لأكتشف هذه الأسئلة في حصة تدريبية مع شيرين في الإستديو الخاص بها في عمان. حضرت أربع راقصات بمختلف مستويات الخبرة. كان الذهاب بحد ذاته تحدياً شخصياً كوني توقفت عن الرقص منذ ٢٠١٤. بقايا الذاكرة موجودة، حاولت فيها المضي في الحركة وكسر الزوايا المفروضة وانضباطية الجسد المفبركة. بين اللهو مع الجسد والغرق في الذات، كانت شيرين تباغت الأفكار مرة تلو الأخرى. كُلما تجدُ مكاناً تضعُ فيه أقدامك سرعان ما يتغير، وكلما أحسست بهواء رقيق يفهمك ستندفع إلى رياحٍ جديدة تعلّمُ فيها روحك معنى الشِراع. بعد نهاية الحصة، جَلست شيرين على درج القاعة، وخلفها زمن وجماليات كثيرة وذاكرة. قُلت لها: "قد أعود"، فقالت: «cool» "كوول".